هذا الحديث العظيم يدخل فيه الدين كله، أصوله وفروعه، ظاهره وباطنه. فحديث عمر ميزان للأعمال الباطنة.
ففيه الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول اللذان هما شرط لكل قول وعمل، ظاهر وباطن. فمن أخلص أعماله لله متبعاً في ذلك رسول الله فهذا الذي عمله مقبول. ومن فقد الأمرين أو أحدهما فعمله مردود، داخل في قول الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا}[1] والجامع للوصفين داخل في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ}[2] الآية {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[3].
أما النية: فهي القصد للعمل تقرباً إلى الله، وطلباً لمرضاته وثوابه. فيدخل في هذا: نية العمل، ونية المعمول له.
أما نية العمل: فلا تصح الطهارة بأنواعها، ولا الصلاة والزكاة والصوم والحج وجميع العبادات إلا بقصدها ونيتها، فينوي تلك العبادة المعينة. وإذا كانت العبادة تحتوي على أجناس وأنواع، كالصلاة، منها الفرض، والنفل المعين، والنفل المطلق. فالمطلق منه يكفي فيه أن ينوي الصلاة. وأما المعين من فرض أو نفل معين – كوتر أو راتبة – فلا بد مع نية الصلاة أن ينوي ذلك المعين. وهكذا بقية العبادات.
ولا بد أيضاً أن يميز العادة عن العبادة. فمثلاً الاغتسال يقع نظافة أو تبرداً، ويقع عن الحدث الأكبر، وعن غسل الميت، وللجمعة ونحوها، فلا بد أن ينوي فيه رفع الحدث أو ذلك الغسل المستحب. وكذلك يخرج الإنسان الدراهم مثلاً للزكاة، أو للكفارة، أو للنذر، أو للصدقة المستحبة، أو هدية. فالعبرة في ذلك كله على النية.
ومن هذا: حيل المعاملات إذا عامل معاملة ظاهرها وصورتها الصحة، ولكنه يقصد بها التوسل إلى معاملة ربوية، أو يقصد بها إسقاط واجب، أو توسلاً إلى محرم. فإن العبرة بنيته وقصدهن لا بظاهر لفظه؛ فإنما الأعمال بالنيات. وذلك بأن يضم إلى أحد المعوضين ما ليس بمقصود، أو يضم إلى العقد عقداً غير مقصود. قاله شيخ الإسلام.
وكذلك شرط الله في الرجعة وفي الوصية: أن لا يقصد العبد فيهما المضارة.ويدخل في ذلك جميع الوسائل التي يتوسل بها إلى مقاصدها؛ فإن الوسائل لها أحكام المقاصد، صالحة أو فاسدة. والله يعلم المصلح من المفسد.
وأما نية المعمول له: فهو الإخلاص لله في كل ما يأتي العبد وما يذر، وفي كل ما يقول ويفعل. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[4] وقال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[5].
وذلك أن على العبد أن ينوي نية كلية شاملة لأموره كلها، مقصوداً بها وجه الله، والتقرب إليه، وطلب ثوابه، واحتساب أجره، والخوف من عقابه. ثم يستصحب هذه النية في كل فرد من أفراد أعماله وأقواله، وجميع أحواله، حريصاً فيه على تحقيق الإخلاص وتكميله، ودفع كل ما يضاده: من الرياء والسمعة، وقصد المحمدة عند الخلق، ورجاء تعظيمهم، بل إن حصل شيء من ذلك فلا يجعله العبد قصده، وغاية مراده، بل يكون القصد الأصيل منه: وجه الله، وطلب ثوابه من غير التفات للخلق، ولا رجاء لنفعهم أو مدحهم. فإن حصل شيء نم ذلك من دون قصد من العبد لم يضره شيئاً، بل قد يكون من عاجل بشرى المؤمن.
فقوله صلي الله عليه و سلم : "إنما الأعمال بالنيات" أي: إنها لا تحصل ولا تكون إلا بالنية، وأن مدارها على النية. ثم قال: "وإنما لكل امرئ ما نوى" أي: إنها تكون بحسب نية العبد صحتها أو فسادها، كمالها أو نقصانها، فمن نوى فعل الخير وقصد به المقاصد العليا – وهي ما يقرب إلى الله – فله من الثواب والجزاء الجزاء الكامل الأوفى. ومن نقصت نيته وقصده نقص ثوابه. ومن توجهت نيته إلى غير هذا المقصد الجليل فاته الخير، وحصل على ما نوى من المقاصد الدنيئة الناقصة. ولهذا ضرب النبي صلي الله عليه و سلم مثالاً ليقاس عليه جميع الأمور، فقال: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" أي: حصل له ما نوى، ووقع أجره على الله "ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" خص فيه المرأة التي يتزوجها بعد ما عم جميع الأمور الدنيوية لبيان أن جميع ذلك غايات دنيئة، ومقاصد غير نافعة، وكذلك حين سئل ـضـض عن الرجل يقاتل شجاعة، أو حمية، أو ليُرَى مقامه في صف القتال "أيُّ ذلك في سبيل الله؟" فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وقال تعالى في اختلاف النفقة بحسب النيات {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ}[6] وقال: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ}[7] وهكذا جميع الأعمال . .
والأعمال إنما تتفاضل ويعظم ثوابها بحسب ما يقوم بقلب العامل من الإيمان والإخلاص، حتى إن صاحب النية الصادقة – وخصوصاً إذا اقترن بها ما يقدر عليه من العمل – يلتحق صاحبها بالعامل. قال تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ}[8]
وفي الصحيح مرفوعاً "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً"، "إن بالمدينة أقواماً ما سِرْتُم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلى كانوا معكم – أي: في نياتهم وقلوبهم وثوابهم – حبسهم العذر" وإذا هم العبد بالخير ثم لم يقدر له العمل كتبت هِمَّته ونيته له حسنة كاملة. والإحسان إلى الخلق بالمال والقول والفعل خير وأجر وثواب عند الله. ولكنه يعظم ثوابه بالنية. قال تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ}[9] أي: فإنه خير، ثم قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[10] فرتب الأجر العظيم على فعل ذلك ابتغاء مرضاته. وفي البخاري مرفوعاً "من أخذ أموال الناس يريد أداءَها أدَّاها الله عنه. ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله" فانظر كيف جعل النية الصالحة سبباً قوياً للرزق وأداء الله عنه، وجعل النية السيئة سبباً للتلف والإتلاف.
وكذلك تجري النية في المباحات والأمور الدنيوية. فإن من قصد بكسبه وأعماله الدنيوية والعادية الاستعانة بذلك على القيام بحق الله وقيامه بالواجبات والمستحبات، واستصحب هذه النية الصالحة في أكله وشربه ونومه وراحاته ومكاسبه: انقلبت عاداته عبادات، وبارك الله للعبد في أعماله، وفتح له من أبواب الخير والرزق أموراً لا يحتسبها ولا تخطر له على بال. ومن فاتته هذه النية الصالحة لجهله أو تهاونه فلا يلومن إلا نفسه. وفي الصحيح أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال "إنك لن تعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا أجرت عليه، حتى ما تجعله في فيّ امرأتِك".
فعلم بهذا: أن هذا الحديث جامع لأمور الخير كلها. فحقيق بالمؤمن الذي يريد نجاة نفسه ونفعها أن يفهم معنى هذا الحديث، وأن يكون العمل به نصيب عينيه في جميع أحواله وأوقاته.